١
المجتمع العراقي متنوع دينياً وإثنياً ولغوياً وبالتالي فالكتابة عن حقيقته وواقعه لا يمكن أن تقفز فوق كل هذه الاختلافات والتناقضات، أو تمحو الهامشي، إذا أرادت أن تنفذ إلى صميم هذا المجتمع وحيواته وأفراده، وإلا خسرت الكثير. لكن الكاتب يكون في كثير من الأحيان تحت وطأة أيديولوجية ما تتحكم بالكتابة فتصور مجتمعاً نمطياً مؤمثلاً يمحو ما يجب محوه لكي “تستقيم” الصورة. وتراوغ وتحاذر كي لا تتعامل مع هذا التنوع الذي قد يكون إشكالياً، خصوصاً عندما تترجمه الخطابات السياسية والصراعات إلى عملة رابحة أو خاسرة. والرقابة الشرسة والإطار الذي رسخه النظام في ما عرف بـ “أدب الحرب” معروف ولا داعي لأن نخوض فيه لكن يجب أن نتذكر أنه رسم خارطة وخطوطاً حمراء لما يمكن الكتابة عنه أو حتى تخيله! والكتابة عن العراق في العقد الأخير، بعد الغزو وبعد الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي لا يمكن أن لا تشتبك، بدرجة أو بأخرى، أو تعترف على الأقل بحقيقة الانقسامات الموجودة في المجتمع. فعل الكتابة الإبداعية هو نقيض المحو بكل معانيه. في “وحدها شجرة الرمان” كانت البذرة هي قصة رجل يمتهن هذه المهنة وقادتني قصته لأن أقرأ عن تاريخها والطقوس الخاصة بها في السياق الشيعي. وكانت مخاطرة، لكن الكتابة هي أيضاً اختراق عوالم غريبة وتقمص الآخر. للأسف الكثير من المراجعات التي كتبت عن “وحدها شجرة الرمان” شددت على حقيقة أنني من عائلة مسيحية وكأن كل كاتب يجب أن يكتب عن جماعته فقط وأن لا يتسلل إلى مناطق أخرى! وهذا يقودني إلى “إعجام” التي كانت عن محنة الفرد في وصراعه مع خطاب السلطة وبطشها في عراق الثمانينات والحرب والدكتاتورية. كان السارد من عائلة مسيحية وهناك إشارات إلى بعض الطقوس الدينية واستخدمت المحكية التي يتحدث بها غالبية المسيحيين في العراق في الحوارات، لكن محنة بطل الرواية وما تعرض له ليس محكوماً البتة بدينه أو دين عائلته، إذ أن الانتماء الأيديولوجي والموقف من السلطة كان الأهم آنذاك. أما في روايتي الأخيرة “يا مريم” التي صدرت منتصف العام الماضي، فشخصياتها عاشت فترة تفاقم الاحتقان الطائفي والعنف ضد المسيحيين في السنين الأخيرة وهي تتعرض لموضوعة العنف والخطاب العنصري. لكنها لا تقدم رؤية أحادية للموضوع بل رؤيتين تتعارضان. واحدة ترى تاريخاً من الاضطهاد والقمع ولا تؤمن بإمكانية التعايش مع المسلمين والأخرى تحمل الأمل وترى الأحداث الدامية في السنين الأخيرة من منظار سياسي وليس ديني.
٢
على الرغم من النظرة النقدية الضرورية إزاء “آباء” الرواية العراقية، إلا أننا نكتب بعد عقود من أولئك الآباء ونستفيد من خبراتهم وتجاربهم، كما نستفيد من نضوج الرواية عموماً في العالم العربي ومن إضافات وآفاق جديدة معرفياً وأدبياً، بالإضافة إلى التجارب الحياتية. لا أعتقد بأن لدي مهمة محددة. مهمتي هي أن أكتب روايات جميلة. لكن هواجسي ورؤيتي للعالم وللعراق وقراءتي لواقعه تنعكس في ما أكتبه. وأنا مهتم بشكل عام في ما أقرأه وأكتبه بالهامشي والمهمّش وبالمحرم. علامات “ممنوع الدخول” تجتذبني كثيراً وتولد لدي الرغبة بالدخول لأنني معني بالحدود الحقيقية والرمزية وبالتراتبية التي تنتجها وما تخفيه. وهكذا يمكنك القول بأنني أحب عبور الحدود بصورة غير شرعية. وهذا يقودنا إلى التاريخ والرواية. والخطاب الروائي حيز مهم وخصب لتفكيك الروايات الرسمية والمهيمنة ولتدوين تواريخ مهملة أو ممحوة، لكن دون التضحية بالشرط الجمالي والفني وهذا في غاية الأهمية.
٣
أنا مهووس بالمهمّش والمسحوق والمسجون، ويؤرقني أن التاريخ يعمل كجرافة تسحق كل ما ومن يقف في طريقها ليبني على الجثث والركام قصوراً ونصباً تمجد المنتصرين. أنا معني بالمهزومين والمقبورين وبانتشال أشلائهم من تحت الأنقاض والاستماع إلى حكاياتهم. وجواد في "وحدها شجرة الرمان" هو واحد من هؤلاء الذين حشرهم التاريخ في زاوية لا يستطيعون الفكاك منها، بالرغم من كل شيء. فهو يصطدم بالموت بشكل يومي ولا ينجح في الهرب منه. كما أن لاطائفيته في بلد يغرق في الطائفية وإنسانيته في زمن موحش، تجعله غريباً في وطنه وبين أهله. أردت أن أحكي قصة جواد التي تختصر الكثير من التناقضات والمأسي في عراق اليوم.
٤
الدين متداخل مع السياسة بدرجات مختلفة في كل مكان. لكن تسييس الدين واستخدامه في الصراعات السياسية تفاقم في العراق في العقد الأخير ودخل إلى نخاع المجتمع ولاوعي الفرد. وهكذا لا مفر من التعامل مع موضوع الدين والطائفية. لكنني أعتقد بأن الأمر طبيعي لأن الإنتاج الروائي زاد كثيراً مؤخراً واتسعت مساحة الموضوعات التي يمكن الكتابة عنها وتعددت المقاربات. كما أن الدين، بمعناه الأوسع، كعلاقة للفرد بالمقدس (مهما كان شكله ومضمونه) وحزمة من الرموز والحكايات التي تهيكل حياة مجموعة، موجود بقوة في كل تجمع بشري ولا بد للانتاج الثقافي والأدبي أن يصوره ويتمثله. ولكن، وهنا سأكرر ما قلته في جواب سابق، حين يصبح النص الأدبي مجرد منصة ضد الدين فإنه سيخسر ويضحي بهويته الأدبية.
[النص أجوبة على أسئلة طرحها الشاعر والكاتب العراقي عمر الجفال على عدد من الروائيين العراقيين لموضوع كان يعده حول "الدين في الرواية العراقية." وتعذر نشر الموضوع كاملاً وبدون حذف. تنشر ”جدلية“ أجوبة سنان أنطون كاملة وبدون حذف.]